كان اليهود يتحرقون على الإسلام والمسلمين إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعًا من الحيل ؛ لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، ولكنهم بعد وقعة أحد أخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سرًا، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين . ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ـ وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا : نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعًا وتوجه إلى المدينة. وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم : "اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه". فلم يجد اليهود مناصًا من الخروج، فأقاموا أيامًا يتجهزون للرحيل، لكن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بعث إليهم ألا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم ، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. وهناك عادت لليهود ثقتهم، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابهم، سار إليهم، وفرض عليهم الحصار، فالتجئوا إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونًا لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها. واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرًا، أو يدفع عنهم شرًا . واستمر الحصار ست ليال فقط، وقيل : خمس عشرة ليلة حتى تهيأوا للاستسلام ، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن نخرج عن المدينة. فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولي على أرضهم وديارهم وأموالهم وكانت أموالهم وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يضعها حيث يشاء ، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطي أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف الأنصاريين لفقرهما، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في عدة الحرب. وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، وقد أنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثني على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوي والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته.